السبت، 28 أغسطس 2010

قصة مملة


ادار المفتاح في كالون الباب ... دفع الباب بقدمه ليصدر ذلك الصرير .... اطلق سبة وتفل في الارض ولعن النجار الذي قام بإصلاح الباب مؤخراً ..... دخل حجرته يتهادى .... شغل المذياع على اسطوانة ام كلثوم ..... وقف تحت امطار الدش الساخنة وترك رأسه العارية من الشعر لتقذفها حنفية الدش بالرذاذ وتزيل عنها هموم العمل ..... تمدد على الاريكة نصف عار وهو يدندن بصوت عال مع الست " ابدأً ابداً .. اهو دة اللى مش ممكن ابداً ... الله عظمة على عظمة على عظمة يا ست " ابتسم في جذل ..... جذب علبة الدخان المعدنية الذي ورثها عن والده الذي ورثها بدوره عن جده .... انهم من هؤلاء القوم الذين لايستمتعون بالتبغ الا بعد القيام بلفه بأيديهم ..... انها عادة موروثة في عائلتهم في الصعيد الجواني ..... تشبع صدره بالدخان واطلق زفيره حاراً بلهيب الحنين الى الماضي ..... لاتزال ام كلثوم تشدو ...... يرن جرس الهاتف فينظر للرقم ويطلق سبة ويرمي الهاتف على الارض ..... يرن الهاتف مراراُ الى ان يصمت فلا يعود في الحجرة سوى صوت الست وصوت حنفية البانيو التى تتساقط عنها القطرات الهاربة الى بالوعة المجاري ..... " أنسااك دة كلام .. انسااك يا سلام " هكذا تنطلق ام كلثوم في الغناء بينما يشرد ذهنه الى اللحظات التى لاتنسى ..... تذكر حنان زميلته في الجامعة .... لم تكن حنان من المعجبات بام كلثوم مطلقاً .... ولكنه كان يحبها في صمت الرهبان ... في كل مشادة بينهما في كافيتريا كلية الاداب ... كانت وسيلته لجذب انتباهها اليه ان يضايقها بكلامه ... انه من تلك الفئة التى لاتعرف كيف تتواصل مع الاخرين بالطرق المباشرة ... فيلجأ الى الاساليب العنيفة ... ودائما ماكان حسين صديقه ينصحه بأن يغير من طريقته تلك والا فقد الكثير ممن حوله .... وكان هذا يغضبه بشدة فينطلق بصوته العميق وبلهجته الصعيدية " اللى ماعاجبهوش يخبط راسه ف الحيط " .... هكذا تربى في حضن الجبل مع اقرانه .... لا احد يفرض سطوته عليك .... انت سيد القرارات جميعاً .

تذكر حسين ويوم زفافه .... تذكر تلك المشاجرة التى دارت في الممر خلف القاعة الانيقة بينه وبين ذلك النادل المكلف بتحضير الوجبات الخفيفة بكافيتيرا النادي المقام به الحفل .... لم تعجبه تلك اللهجة التى تكلم بها ونظراته التى توحي انه ينظر الى انسان درجة ثالثة .. ... تحركت بداخله لحظتها كل تعاليم الجبل .... وكل عصبية السنون التى مرقت عليه في عزلته وحيدا بالقاهرة ... تجادل بصوته العال ... ورفع عقيرته بالسباب ..... وتناول عصا الكافيتريا التى ارجعته الى سني الصبا والتحطيب .... فتراقصت انامله على العصا بلاشعور منه وقبض على ياقة قميص خصمه .... وبصوت هادئ تملؤه رائحة الادرينالين الذي يجري في دمه " تاجي ونتكلمو وحدينا ... بيناتنا حديت مايصحش الناس يسمعوه " .... تقاذف الخصمان النظرات .... واخذت العصبية بالنادل الشاب الذي اراد ان يثبت رجولته امام ذلك الثائر .... تدخل المقربون في محاولة فض النزاع ... ولكنهما تحركا من المكان الى البهو الخلفي الصامت ... واخذا يكيلا لبعضهما اللكمات والسبابات ... الى ان ارهقهما الضرب فأخذ كل منهم جانبا من الحائط يلهث وينتظر من خصمه لحظة يتهاوى فيها ..... عندها تدخل العقلاء وفضا ماكان بينهما ..... خرج كالمنتصر مزهوا بغزوه ارض عدوه .... لم يدر احدهم من المهزوم حقا ولكنه استطاع ان يرضي ذلك الوحش الكاسر الذي ينادي عليه من فوق جبل كرامته .

" سنين ومرت .... زي الثواني ... ف حبك انت .... وان كنت اقدر ... احب تاني ... احبك انت " يهز رأسه منتشيا عند ذلك المقطع من الاغنية .... حاول ان ينهض من مرقده فخانته ذراعاه ..... استسلم لذلك الشعور اللذيذ بالخدر في قدماه .... ودارت عيناه في سقف الحجرة .... لاحظ خيوط العنكبوت في احد الاركان .... اطلق سبابه بذيئاً وادار عينه بعيداً ... منذ وفاة زوجته من عشر سنوات لم يعد يهتم بحال الشقة سوى امرأة عجوز تاتي اول كل اسبوع .... ماعادت السنون تعطيه القوة ليقوم بهذه الانشطة .... وحيداً يعيش منعزلا في مسكنه بعيد عن الناس ... وعن الاهل ... وعن الاصدقاء .... لكم تمنى ان تأتي اخر لحظاته فوق الجبل الذي شهد طفولته ..... لم يرزق بالاطفال لكن اطفال اخوته يملاؤن عليه الحياة بزخمها وزحامها وسرعتها وطرقاتها المسدودة ..... انحصر نشاطاته في متابعة اعمال المحاسبة في ذلك المكتب المتهالك في وسط البلد .... يعود اليه كل صباح وقد انهكته الذكريات التى تتابع عليه كل مساء ...... الجبل .... شبابه في الجامعه ..... ايام زواجه .... سفره للكويت .... عودته ووفاة زوجته في حادث السيارة .... الارقام التى لاتنتهي كل صباح والتى لايكاد يأخذ منها استراحة في المساء ... لتعاود محاصرة افكاره وخلايا عقله في الصباح التالي .... وهكذا تنقضي ايامه ... وينسحب من تحت قدماه بساط العمر ...... وككل ابناء الصعيد النازحين لقاهرة المعز ... ما ان يستقر حتى تنقطع صلته بالجبل .... ولم ينس ابداً اصوله التى ينتمي اليها .... وعوايده التى تربى عليها .... وتعاليم الجبل التى تخرج فيها شاباً يستطيع الوقوف وحيداً ... ليتلقى صدمات الدهر على صدره.

لاينسى قبل ان ينام ان يشعل سيجارته الاخيرة وهو يتذكر نصيحة حسين ... " التدخين دة هايقتلك، ربنا يهديك وتبطل الدخان اللى هايموتك ف يوم دهوت " .... يبتسم في سره .... فحسين لايعرف ان اخر اشعة قام بها منذ حوالي ثلاث سنوات اشارت الى اصابته باحد الاورام والتي تستلزم تدخل علاجي مكثف ولكنه من حينها .... قاطع كل الاطباء ولم يخبر حسيناً بما صار .... وجل ماينتظره .... هو زيارة الجبل الذي شهد مولده ..... ليشهد كذلك على تقرير الوفاة.

السبت 21/8/2010


ليست هناك تعليقات: