تضطرك الظروف احيانا الى القيام بمشاوير لاتيريد القيام بها، خصوصا في اجازتك واثناء ساعات الانتخة المقدسة ..... طلب مني السيد الوالد الذهاب الى منطقة ما لاشتري له طلب، والمفروض انه محتاج ضروري لهذا الشئ والجو متقلب خانق فتارة البرد شديد وتارة اخرى ممطر، ومابين هذا وذاك المشوار نفسه محتاج مواصلتين.
ركبت الاتوبيس والزحام والضوضاء والهواء البارد يحيطون بي جميعاً، اتخذت مقعدي بجوار النافذة بجوار ذلك الرجل الاصلع المنهمك في قراءة اخبار الرياضة، لا تستهويني اخبار الرياضة فدائما الاهلي بيكسب او تعادل مع احد الفرق والزمالك اما خاسراً او كاسباً في مرات قليلة .... احوال الكرة تسير في اتجاة واحد متكرر ممل والنقاد الرياضيين يعيدون كلماتهم عن هذا النجم اللامع وهذا اللاعب الابيح ولهذه الاسباب كرهت الرياضة وكرهت قرائتها.
كالفارس المغوار يدخل الاتوبيس الاحياء والشوارع فاتحا قلبه للقاصي والداني .... ما ان يتعلق بصر احدهم باللافتة المعلقة حتى يجري عليه او وراءه ويقفز ليتعلق بالماسورة الجانبية للباب الخلفي ليبتلعه التلاحم ، قال احد اصدقائي يوماً معلقا على الاتوبيس وزحامه: لو اينشتين نفسه حاول يفسر سر الظاهرة الغريبة ف التلاحم دة بين الناس مش هايقدر. فقد تجد ذراع احدهم معلقة بكتفك وقدم احداهن محشورة بين ساقي رجل اخر، ولايكفي الهواء الساخن المحبوس بين الاكتاف والصدور والكروش رئتاك لتحيا ... فأنت تعيش في حالة تصوف نادرة يصعب على المتصوفين بلوغها ... مابين ندرة الهواء وتلوثه ومابين الروائح البيولوجية للادميين والروائح الصادرة عن عادم الاتوبيس تستطيع ان تتنفس وتعيش طوال الطريق حتى تصل للمحطة التى تنزل فيها وعندها فقط .. تدرك انك نزلت من هذا التابوت المتحرك وبعثت من جديد.
اطلق نظراتي بملل على المحال والشوارع والناس في السيارات طوال رحلتي المتفردة، ولايزال جاري يقلب عن اخبار الاهلي بين الصفحة السابعة عشر والثامنة عشر ، بعد لحظات شد انتباهي مشهد ولد صغير يجلس بجوار امه في المقعد الذي يسبقني، جلبابه الكحلي المترب يدل على مشواره البعيد وسمرته المليحة تشي بقرويته البسيطة، عندما تحرك ليقف لمحت وجهه والشاش المغطي لعينيه فأدركت انهما في طريقهما الى مستشفى العيون الشهيرة في المنطقة القريبة والتي سيصل اليها الطريق قريباً.
مد كفه الصغير لامه تستند اليها ، تكلم الى السائق في كلمات مبعثرة ، مادريت من منهما يعتمد على الاخر ... فهو في حنوه ورفقته بأمه يأخذ يدها ويدلها لطريق خطواتها وهي بسمرتها وامومتها التى التف عليها الشال الصوفي لتخرج من عينيها الوضاءة نظراتها المتفحصة ترقب رجلها الصغير بجلبابه الكحلي ومداسه ذو النعل البلاستيكي يتقدمها الى المجهول.... كلاهما لايعرف الطريق ولكنه سيد القرار وهي تبعته في ثقة .... تفحصتهما ، نظر هو الى الراكبين بعين واحدة .... فهما على مايبدو سيذهبان الى المستشفى لعلاج عين الصغير المربوطة بالشاش والام تصحب وليدها لقلة حيلته ولكنه في مشهده هذا هو الذي يصحبها ويدلها على الطريق لرفقه بها ... هدأ السائق من سرعة الاتوبيس واشار بيده الى الشارع المقابل واخبر ذلك الرجل الصغير ذو الشاش المعصوب على عينه ان طريق المستشفى من هنا ، قبض الصغير على كف امه برقة وتمسك بقبضته اليسرى بحافة الماسورة الجانبية للباب وهو يخطو على السلم يؤمن طريقا الى امه ويرشدها الى الخروج من قلب ذلك الوحش الرابض امام الطريق الى المستشفى.
نزلا الى الشارع وهو يأخذ بيدها وسرعان ما بدأت العجلات في التهام اجزاء الطريق دار والتفت ونظر بعمق الى الاتوبيس بعينه الفاحصة وتلعثمت خطواته في جلبابه الفضفاض فتمسكت به يد امه سارا في بطئ الى ان ابتلعهما الزحام وراء الكشك على ناصية الشارع، تململ جاري في جلسته وهو يطبق اجزاء الصحيفة ، دوى صوت الكمساري عالياً : " ادام فاضي ياحضرات " .... اكمل الاتوبيس طريقه تاركاً المشهد كله ... ولكن ظل بداخله يحمل اطياف ذلك الجلباب الكحلي المترب والامومة التى تشبعت بها ماسورة الباب .. في مزيج من الزحام ... والضوضاء .... والبرد.
اسلام زيدان - فبراير 2004
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق